الوقت
لقداسة البابا شنودة الثالث
يقول
الرب " قدسوا صوماً، نادوا بأعتكاف" لكى يرينا أهمية الاستفادة من الوقت
فى فترة الصوم. ولهذا أحب أن أكلمكم عن أهمية الوقت فى الحياة عموماً، إن
خيراً وإن شراً.
الوقت جزء من حياتك، أن ضيعته تضيع حياتك وأن حفظته حفظت حياتك. حياتك هى
أيام وساعات. وكما قال الشاعر: دقات قلب المرء قائلة له أن الحياة دقائق
وثوان
إنى أعجب للأشخاص الذين يبحثون عن وسيلة لقتل الوقت، بأية الطرق: بوسائل
الترفيه أو التسلية أو الثرثرة أو اللهو …… ولا يدرى هؤلاء
أنهم أذ يقتلون وقتهم، يضيعون حياتهم ….. الذى يقتل الوقت لا يشعر
أن لحياته قيمة، هو إنسان يعيش بلا هدف، وبلا رسالة. حياته رخيصة فى
عينيه. أما الذين يحترمون حياتهم، فكل دقيقة منها، منتجة ونافعة، ولذلك
فهناك أشخاص كانت حياتهم قصيرة، ولكنها عجيبة وعميقة …. يوحنا
المعمدان بدأ حياته من سن الثلاثين، وأستمرت خدمته حوالى سنة، أستحق
خلالها أن يكون أعظم من ولدته النساء. فى هذه الفترة القصيرة أعد الطريق
قدام الرب، وهيأ له شعباً مستعداً، وعمد آلافاً من الناس بمعمودية التوبة.
بعكس متوشالح الذى عاش 969 سنة، لم نسمع عنها شيئاً من هذا.
السيد المسيح نفسه، كانت مدة خدمته فى الجسد 3 سنين وثلث. ولكنه فى تلك
الفترة القصيرة عمل أعمالاً لم يعملها أحد من قبل، ولو كتبت واحدة فواحدة،
ما كانت تسعها الكتب. وحقق قضية الخلاص، وقدم للناس صورة الله.
أيضا البابا كيرلس الرابع، كانت مدة خدمته 6 سنوات وبضعة أشهر. ومع ذلك عمل فيها ما أستحق عليه لقب (أبو الأصلاح).
كثيرون عاشوا حياة قصيرة، ولكنهم قدموا فيها أعمالاً عظيمة. وكثيرون نالوا
العظمة وهم بعد أطفال أو صغار، أو مجرد شبان. القديس تادرس تلميذ القديس
باخوميوس أب الشركة، والقديس ميصائيل السائح، والقديس يوحنا القصير، أمثلة
لعظمة العمر الصغير.
فالقديس تادرس وهو فى حدث شبابه المبكر، كان أباً ومرشداً لكثيرين، ومؤسساً لأديرة ووكيلاً
للقديس باخوميوس…… والقديس ميصائيل صار سائحاً قبل أن يبلغ العشرين من عمره……
والقديس يوحنا القصير – وهو فى حداثة عمره – أستطاع أن يعلق
الاسقيط كله بأصبعه كما يشهد قديسوا البستان. هؤلاء وصلوا إلى المجد فى
فترة وجيزة، وهم فى مقتبل العمر، وصعدوا بسرعة، لأنهم لم يضيعوا وقتهم،
أخذوا الأمور بجدية. كل دقيقة كانت ترفعهم إلى فوق، وتدخلهم إلى الأعماق،
وتنميهم. كان وقتهم دسماً، كله بناء لأنفسهم وللآخرين، لم يضع منه شئ، كان
وقتهم بركة للآخرين.
هناك إنسان وقته فى صالحه، يحييه وآخر وقته ضده. إنسان فى لحظة يكسب كل شئ، وآخر فى لحظة يخسر الكل …….
داود فى لحظة طيش أرتكب خطية، ظل طوال حياته يبكى بسببها ويبلل فراشه
بدموعه. شمشون الجبار فى لحظة أخرى، كسر نذره، وفقد شعره، وضاعت كرامته.
بطرس الرسول أيضاً لحظة خوف جعلته يبكى بكاءاً مراً. وبقدر ما أضاعت هؤلاء
لحظات. نرى اللص اليمين قد كسب الفردوس فى لحظة، وكذلك العشار فى الهيكل،
وزكا على الشجرة. الأبن الضال فى لحظة طيبة، ندم وقال " كم من أجير عند
أبى يفضل عنه الخبز، وأنا هنا أهلك جوعاً" وهكذا ربح الحياة. والقديس
أنطونيوس فى لحظة تأمل وهو ينظر جثمان أبيه، زهد العالم، وحط لنا هذا
الطريق الملائكى.
هناك لحظات أو ساعات، مرت على العالم، كانت خالدة …..
لحظة قال عنها بولس " فى الجسد، أم خارج الجسد، لست أعلم" صعد فيها إلى
السماء الثالثة، ورأى أشياء لا ينطق بها. ويوم روحى مر على يوحنا الرائى،
قال عنه " كنت فى الروح فى يوم الرب" ، هذا اليوم قدم لنا سفر الرؤيا بكل
ما فيه من إعلانات ونبوءات ورموز وتعاليم ووعود..
ثلاث ساعات على الصليب، قدمت للعالم كله خلاصاً هذا مقداره، والعالم بكل
أجياله لا يساوى ساعة منها ….. من هذه الثلاث ساعات، لحظة أنتهزها
اللص لخلاصه ….
لحظة تصارع فيها يعقوب مع الرب، وغلب، ونال المواعيد. حياته كلها فى كفة، وهذه اللحظة وحدها فى كفة ….
هناك ساعة تمر على الإنسان، تغير حياته كلها ….. يشعر أن حياته
كلها نوع، وهذه الساعة نوع آخر ….ساعة يتمتع فيها بما يسميه الآباء
" زيارة النعمة" أو مذاقة الملكوت. تمر عشرات السنوات، لتمجد هذه الساعة
…. إنها ساعات خالدة فى الحياة، لا تنسى ولا تقاس بالمقاييس
العادية. لها عمقها، ولها فاعليتها، ولها تاريخها الحى. وبعكس هذا أوقات
تمر عليك، فتقول فى مرارة " ليتها لم تكن إنها سبب مشاكلى كلها فى الحياة"
.
يحزننى بالنسبة إلى البعض، ان وقته ضده، وقته يقتله …. ساعة واحدة
يمكن أن تضيع عمره كله، أو توصمه بصفة رديئة تظل عالقة به طوال حياته، لا
يفلت منها …….فلنحاول إذن أن نستفيد من كل لحظة تمر بنا "
مفتدين الوقت، لأن الأيام شريرة" ولتكن أوقاتنا بركة لنا ومنفعة.
ونحن صغار كنا نأخذ تدريباً يسمى "اليوم المثالى" ….نحاول أن نجعل
كل دقيقة فيه بركة لحياتنا، ولا نعمل فيه شيئاً نندم عليه….ليت
أيامنا كلها تكون مثالية……
كل دقيقة من دقائق حياتك، ليست ملكك، هى ملك للرب. إنه إشترانا بدمه،
فأصبحت له. ليست ملكك حتى تتصرف فيها كما تشاء. وقتك هذا هبة من الرب منحك
إياها. كان يمكن لحياتك أن تنتهى أمس، ولكنه من جوده أعطاك يوماً جديداً.
فليكن هذا اليوم مقدساً له ….. كما نصلى فى صلاة الشكر "إمنحنا أن
نكمل هذا اليوم المقدس، وكل أيام حياتنا، بكل سلام مع مخافتك" .
إسأل حياتك، كم هو الوقت الذى ندمت عليه، أو كان ينبغى أن تندم؟ وكم هو الوقت المبارك.
الأمر فى يدك: تستطيع أن تجعل أوقاتك مباركة أو مؤلمة …. لقد وضع
الله أمامك الطريق، وترك الأمر لحريتك. فإن لم تستطع أن تجعل كل أوقاتك
مقدسة، فعلى الأقل حافظ على قدسية أيام الرب: آحاده وأعياده ، وأصوامه.
يوم الرب، يمكن أن يصير ذخيرة مقدسة للأسبوع كله، وخميرة تخمر العجين كله،
ويمكن أن يكون مجرد يوم عطلة. ياليت حياتك كلها، تصبح سبتاً للرب. عملاً
من الأعمال لا تعمل فيها، سوى عمل الرب وحده ……!!!! كثيرون
يضيعون أوقاتهم، ويأتون آخر النهار فيجدون أنهم لم يعملوا شيئاً !!! وقد
يستيقظ إنسان فى سن الخمسين أو الستين، فيجد أنه أضاع عشرات السنوات من
حياته، دون أن يستفيد شيئاً….
ما هو الميت من أيامك، وما هو الحى ؟؟!! ما هى الأيام التى تحسب من عمرك؟
وما هى الأيام التى بلا قيمة ولا حساب؟ ما هى الأيام المحفوظة لك فى اليوم
الآخير؟ وما هى الأيام التى يملكها الشيطان؟. ما هو نصيب الرب فى حياتك؟
ما الذى يحصده من تعبك؟
عندما يأتى الله ليحصد الحنطة التى فى حياتك، كم هى السنابل التى يضمها
إلى أجرانه ؟ سيقول لك: قد أعطيتك عمراً طويلاً، فماذا أعطيتنى منه؟ كم هو
إكليروس وقتك، أعنى نصيب الرب فيه؟……… أنظر إلى حياة
إنسان كبولس الرسول، وكيف كان وقته للرب. عشرات السنوات من حياة الناس، لا
تساوى ساعة منها ……لك حياة، ولكنك لا تعرف كيف تستغلها.
صدقنى، إن جميع سكان الجحيم، يشتهون دقيقة واحدة من حياتك. يشتهون دقيقة،
يقدمون فيها توبة، أو يعملون فيها عملاً لخلاصهم. أما أنت فتملك دقائق
كثيرة، بل أيام، بل سنين فماذا فعلت؟ وماذا ستفعل. لم يغلق الباب أمامك،
كما أغلق أمامهم …..عندك الكثير، وأخشى أن تنفق أيامك بعيش مسرف،
كالأبن الضال…..كل يوم يمر من حياتك، قد أنتهى، ربما تندم عليه،
ولكنك لا يمكن أن تسترجعه، أو تسترجع ما حدث فيه. أن كنت قد ضيعت من حياتك
سنوات، ليتك تحرص على ما بقى منها. ليتك تعوض ما فاتك. كلحظة اللص اليمين
التى عوضت عمراً طويلاً أكله الجراد …. نشكر الله إنه ما تزال فى
العمر بقية، ما تزال هناك فرصة للتوبة، وما يزال الروح القدس يعمل فينا
لخلاصنا.
فلنعمل إذن ما دام نهار، ولنضع أمامنا قديسى التوبة، كأوغسطين وموسى
الأسود ومريم القبطية، الذين أستطاعوا أن يعوضوا الماضى كله، فأبيض أكثر
من الثلج، وفاقوا كثيراً من القديسين الذين بدأوا الطريق قبلهم
بسنوات….. ما أغلى أوقات القديسين، تصرخ أمام الواحد منهم " إمنحنى
دقيقة واحدة من وقتك. دقيقة يمكنها أن تغير حياتى. يمكنها أن تحل كل
مشاكلى. دقيقة تكون لى بركة ومنفعة" .
الذين حياتهم فراغ، لا يشعرون بقيمة وقتهم، بل قد يدركهم الملل والضجر، إذ
لا يجدون ما يشغلهم و يسليهم. أما أنتم، فكونوا أصحاب رسالات، ولتكن لكم
أهداف كبيرة، حينئذ ستشعرون بقيمة وقتكم, وستجدون أن مسئولياتكم أكبر
بكثير من وقتكم، فتحسون كم هو الوقت ثمين وغال